وقفات تربوية من سورة الكهف
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال في فضل سورة الكهف:
" من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين "
فمن النور التخلق بخلق القرآن وآدابه ومن هذه الآداب:آداب الحوار
إن من الآداب المعروضة في قصص سورة الكهف ,آداب الحوار ,فبينت أبرز أنواعه وخصائصه المتعددة كالتلطف ,والعناية في انتقاء الألفاظ والموضوعات ,والواقعية ,والثقة بالنفس,وغيرها من الخصائص التي تجعل الحوار فاعلا ومنتجا.
أنواع الحوار القرآني في قصص سورة الكهف:
- أوّلاً: الحوار المنطقي:
إنّ الإنسان قد بنى ذاته على أساس القناعة العقلية، فجعل الإيمان بالقضية الكبرى؛ وهي وجود الله، قائماً على أساس العقل، فحث الإنسان في العديد من الآيات على التدبر والتأمل فيما حوله ليصل إلى حقيقة الإيمان
والأمثلة على هذا النوع من الحوار في آيات سورة الكهف متعددة منها:
1- قول الفتية: (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (الكهف/ 15)،
فهذا حوار قام على أساس العقل في إثبات العبودية لله وحده وانتفاء الشريك عنه عقلاً، فعبارة "بسلطان بيّن" تعني "ببرهان ظاهر، فإنّ الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود، وأنّ التقليد فيه غير جائز". وقد نددت كثير من آيات القرآن بذلك التقليد الأعمى الذي يجمد على القديم المألوف، يقول سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).
2- ومن الأمثلة كذلك ما قاله المؤمن المعتز بإيمانه لصاحبه الغني الكافر بنعمة الله في الحوار الذي دار بينهما مستخدماً فيه الأسلوب العقلي في الرد على كفره طالباً منه الرجوع و اتباع الحق الذي يجلّيه النظر والتأمل في خلق الإنسان من تراب ثمّ من نطفة ثمّ يسوي الخلق ذكراناً وإناثاً، معلناً في خضم ذلك التبرؤ من الإشراك به سبحانه؛ كيف لا وهو الرب الذي خلق وكوّن فأبدع، فقال له محاوراً: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 37-38).
ومن الآثار التربوية التي تنبع من هذا الحوار:
أ) أنّه يجلي – بما لا يدع مجالاً للشك – محاور الحق ومرتكزاته، ليكون أدعى في الإتباع، فيضبط الإنسان سلوكه على ما يرتضيه الحق المطلق، الله سبحانه.
ب) وهو كذلك أدعى في الاستمرار على الحق والثبات عليه، كيف لا وهو يستند إلى قوة الله سبحانه ومن ثمّ إلى القوة التكليفية التي تفصل بين الحق والباطل؛ ألا وهي قوة الحجة والبرهان.
ثانياً: الحوار الوعظي:
كلمة "وعظ (وعظه) – يعظه) وعظاً، وعِظة: نصحه وذكره بالعواقب – وأمره بالطاعة ووصّاه بها".
ألم تلحظ كيف كان موقف صاحب الجنتين عندما طمس التكبر على قلبه وعطّل فكره وعقله وخالف فطرته بكفره، فجاءه صاحبه المؤمن الذي وعظه مستثيراً ما في نفسه من إيمان قائلاً: (.. أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا) (الكهف/ 37)، ثمّ أكمل معه الوعظ الإيماني ليذكره بما تأمره به الفطرة من شكر الله سبحانه على النعمة قائلاً: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ...) (الكهف/ 39)، ثمّ ذكره بالعقوبة إن هو استمر في معصيته؛ بل في كفره فقال: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) (الكهف/ 40-41).
وللموعظة تأثير كبير في تعديل السلوك ذلك أنها:
أ) تلم بمكنونات العقل والفطرة والعاطفة المنضبطة، لتجتمع معاً في هيكل الحقيقة المطلقة وتشكل فيما بعد ذلك البعد السلوكي الممتد إلى أعماق الرضى والطمأنينة الدافعين إلى الطريق السليم والاستمرار عليه.
ب) تضفي على النفسية المؤمنة تلك الشفافية التي تجعل من قلب المسلم حصناً منيعاً أمام المعاصي والمنكرات والسلوكيات الخاطئة، ذلك أنّ الترهيب الذي يصحب الموعظة يعمل على تعليق القلب بالله طالباً رحمته وخائفاً من عذابه
الفوائد من تنوع أساليب الحوار :
أ) أنّها تعمل على زيادة ثقة المحاور بنفسه فيكون أدعى في الإقناع والإتباع، ذلك أنّ هذا التنوع يجعله مؤهلاً لأن يخاطب شريحة كبيرة من العقول أو أن يخاطب العقل الواحد من أكثر من زاوية، العقلية منها والوجدانية، ليشمل مواقع الإقناع النفسية والمنطقية؛ فإن أبعد الفجور عقله عن الحقائق فإنّ المخاطبة الفطرية للوجدان سيكون لها تأثير فيه، وإن لم يكن لاستثارة المكنونات الفطرية طريق سوى العقل، خاطبه بما يصلح لإصلاحه.
ب) إنّ تنوع أساليب الحوار يعطي للمحاورة صفة الاستمرارية، مما قد يتيح الفرصة بشكل أكبر للمربي في التأثير بشريحة واسعة، ذلك أن بقاء الحوار على شكل واحد قد يوقع الملل في النفوس، ومن ثمّ عدم المتابعة الذهنية والانسحاب. أمّا عند التنوع في المخاطبة بين العقل والوجدان فإنّه يكون أقوى في جلب الانتباه بتغيير نوع الخطاب فيستمر الحوار ليفيد منه المربي بقدر ما يسر الله له.
منقول